أبي- رحلة حياة بين الصرامة والحب، القوة والضعف.

المؤلف: أحلام محمد علاقي08.01.2025
أبي- رحلة حياة بين الصرامة والحب، القوة والضعف.

كنت في صغري قرينة أبي الدائمة، نشارك سوياً شغف التجوال، وعلى وجه الخصوص على امتداد شاطئ البحر، وكلينا يعشق الدعابة ويمقت العبوس. كنت أضفي البهجة على أيامه، وهو يبادلني المسرة كصديقين حميمين. ذات يوم، استفسرت منه عن والدته، جدتي التي لم أدركها، فارتسمت على محياه ابتسامة باهتة وهو يتمتم: "رحمها الله، كانت امرأة صارمة، تعاقبني بالضرب عندما أزل، ولكنها حينما أغفو، تغمرني بالقبلات وتذرف الدموع".

كان أبي نسخة طبق الأصل عن والدته في بعض الصفات، لم يكن والداً ليناً بالمفهوم المألوف، ولكنه كان يخفي وراء قناع الجدية عواطف جياشة. لم يلجأ إلى الضرب كعقاب، ولكنه كان يعارض بشدة أي شكل من أشكال التدليل المفرط، فنشأنا أنا وإخوتي هشام ودينا في كنف تربية صارمة تختلف عن تربية أقراننا في ذلك الزمن.

كان يسرد لي حكايات الأجداد ومعاناتهم في الماضي القريب، ويؤكد مراراً وتكراراً على أن الأجيال الجديدة يجب أن تسبح بحمد الله على النعم التي أنعم بها علينا في دولتنا، ففي الماضي، كان الناس يعانون ويلات الجوع والأمراض والجهل والخوف. لقد شهد مع بني جيله الطفرة الهائلة التي شهدتها البلاد. ففي طفولته، لم يعرفوا طعم الشوكولا أو الحلويات فقد عاصر الحرب العالمية الثانية والعالم كله يئن تحت وطأة الأزمات الاقتصادية وتعطيل خطوط التجارة والملاحة. وكانوا كأطفال يتشوقون لسماع أذان المغرب لكي يتذوقوا الشاي المحلى بالسكر، وكانت هذه اللحظات بمثابة لحظات ذهبية في يومهم.

بدأ مسيرته المهنية كمدير لمدرسة كان طلابها يتقاربون معه في العمر، ثم ترقى في السلك الدبلوماسي حتى أصبح سفيراً، وكان يقص علي ذكرياته في القدس العربية، حيث عين قنصلاً سعودياً في رام الله، ثم ذكرياته في غينيا، وسويسرا، واليابان (حيث ولدت أنا وأخي)، وفرنسا، وكوريا، واليمن وغيرها من البلدان. وعندما تعرض لحادثة الاختطاف مع الدبلوماسيين السعوديين في مبنى السفارة في باريس، وهددهم الخاطفون بالقتل، قال لهم بشجاعة وبدعابة معهودة: "حسناً، على الأقل اقتلونا في الحدائق الغناء بالخارج وليس داخل المبنى!"، كان واثقاً وساخراً كعادته حتى وهم أسرى على متن طائرة تحلق بهم في الجو بوقود قليل والموت يحوم حولهم.

كان يحثني أنا وإخوتي على الإقبال على القراءة والعلم والانفتاح على مختلف الثقافات، ويؤكد على أن ذلك يصقل فكر الفرد ويؤهله لمواجهة الحياة في عالمنا المعاصر. كان يؤكد على أن المرء يمثل نفسه ووطنه ودينه، وبالتالي يجب أن يقدم للعالم أفضل صورة ممكنة. وكان يؤمن إيماناً راسخاً بأن شخصاً واحداً قادر على إحداث التغيير. والحمد لله، فقد لمست ذلك بنفسي عندما كونت صداقات مع أشخاص كانوا يعترفون بخوفهم من العرب والمسلمين.

كان أديباً مرهف الحس يقرأ باللغات العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية. وكان والده جدي عبدالقادر علاقي أول من أنشأ صالوناً أدبياً في جازان، وكان من وجهاء المنطقة، فوالدي هو نتاج بيئة مستنيرة وراقية الفكر في أيام الظلام وشح المتذوقين للأدب والعلم. بيئة أفرزت قامات شامخة مثله ومثل عمي الدكتور مدني عبدالقادر علاقي: رجال علم وعمل وخلق. وكان جدي من المؤمنين بحق الفتيات في التعليم، لدرجة أنه أرسل بناته للدراسة في المدرسة الوحيدة الموجودة آنذاك، والتي كانت مخصصة للبنين فقط، ولكنهن كن يخصصن لهن زاوية لكي يستقين من العلم، ولم يكن يتعرض لهن أحد في تلك الأيام الخوالي.

كان أبي يحرص على اقتناء الكتب كلما سافر للسياحة، وكان الكتاب رفيقه الدائم يقرأه في مقهى منعزل. وكان من أقرب أصدقاء طفولته وحياته الأديب والناقد المعروف عابد خزندار رحمه الله، جمعهم شغف الأدب وذكريات الدراسة.

كان كريماً معطاءً، محباً لعمل الخير والمساعدة في الخفاء. وكان العاملون في منزله يتناولون الطعام الذي يحبه، فينهونه قبل أن يمسه، وكان ينهانا عن التحدث إليهم ويقول: "دعهم يأكلون فبلادهم فقيرة ونحن الحمد لله في نعمة".

شاهدته في قمة مجده، سفيراً يتلقى الدروع في المحافل وتصفق له الجماهير في المدرجات، يقف شامخاً مبتسماً يتحدث بثقة وإسهاب. كما رأيته بأشد الحزن يذوي أمام ناظري، ليتحول تدريجياً إلى بقايا من أبي: ليس تماماً الأب الذي أعرفه ولكنه شبح منه، تشبثت به لأنه كل ما تبقى لي. امتلأت رفوف مكتباته بالأدوية بدلاً من الكتب. ومنزله الذي كان يعج بالزوار، تحول إلى مزار للأطباء والممرضات. رأيته يشتاق إلى من رحل من أصحابه. ورأيت الأشجار والورود التي كان يرعاها تذبل بعدما تولاها المزارعون.

لم أشعر قط بأنه يخشى أو يقلق بشأن المستقبل، وكان لديه إيمان قوي بالقضاء والقدر. وكلما سألته عن حاله على الرغم من شدة المرض، كان يجيب بثقة وتجلد وصوت قوي: "بخير وعافية".

وفجأة، رحل في صمت!

أتذكر أحد حواراتنا الأخيرة قبل تدهور صحته، عندما قال لي على غير عادته: "اعتني بنفسك"، وكأنه استشعر أن سندي في مواجهة العالم سيتركني أواجه معركتي الآن بمفردي.

أتركتني يا أبي الآن بعد أن طالما فصلت بيننا غربة ببحار وشساعة المسافات؟ رحلت لتذكرني بأن الحياة لا تساوي شيئاً إلا حفنة من تراب.

سوف تظل خالداً في ذاكرتي يا أبي، بذكرياتك، ذكريات إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى: من ضعف وقوة وتناقض وجمال.

حان وقت راحتك يا أبي، فقد أضناك المسير الطويل. ارقد بسلام بلا ألم يا أبي، فقد ذهبت إلى أرحم الراحمين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة